كتب / د. سعد ناجي جواد
منذ ان انطلقت شرارة عملية طوفان الأقصى الجبارة كان واضحا انها قلبت كل الموازين والمعايير والاستراتيجيات القديمة والمواقف من القضية الفلسطينية راساً على عقب، واكدت ان ما بعدها ستكون حالة مختلفة تماما. وفي كل يوم ومنذ تسعة شهور تقريبا نشهد انقلابات في المواقف، ليس في داخل الارض المحتلة فقط وانما على مستوى العالم. واخير هذه الانقلابات حدثت في فرنسا قبل ايام، فبعد ان أظهرت نتائج الانتخابات الأولية تقدم اليمين المتطرف والمعادي للعرب وللمسلمين بالذات، نجح تحالف قوى اليسار في اكتساح النتائج النهائية وفاز بالانتخابات التشريعية، ووصلت جبهة مؤيدة للحقوق الفلسطينية، وخير مؤشر على ذلك هو ارتفاع الأعلام الفلسطينية في التجمع الجماهيري الكبير الذي ألقى فيه جان لوك ميلنشون احد قادة الكتلة الفائزة كلمته، والدليل الاخر هو إعلانه بان فرنسا ستعترف بالدولة الفلسطينية في اسرع وقت، كما وعدت الاحزاب الفائزة قبل الانتخابات. وهذا الانقلاب الكبير في المزاج الانتخابي الفرنسي لم يكن ليحدث لولا طوفان الأقصى وصمود أبطاله لحد الساعة. ويكفي ان نتذكر ان الرئيس ماكرون انتقد الدول الاوربية التي اعترفت بدولة فلسطين وحذر باقي دول الاتحاد الأوربي من حذو هذا الحذو.
وحتى رئيس حزب العمال الفائز في الانتخابات البريطانية، وعلى الرغم من مواقفه المعروفة المنحازة لدولة الاحتلال، وعلى الرغم من تصريحاته السابقة في بداية الطوفان والتي قال فيها ان (من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها وفي ان تستعمل كل الوسائل من اجل ذلك بما فيها قطع الماء والكهرباء والغذاء وتدمير المستشفيات)، عاد وغير لهجته وبدا يتحدث عن ضرورة وقف الحرب وحل الدولتين وان بريطانيا ستعترف بدولة فلسطين في الوقت المناسب، نعم هو يكذب في هذا المجال، ويبرر عدم الاعتراف السريع بالخشية من اغضاب الولايات المتحدة، وكل هذه تسويفات لا تنطلي على عاقل، ولكنه مع ذلك، وبسبب التأييد المتصاعد في الشارع البريطاني اظهر تقربا من السلطة الفلسطينية واتصل برئيسها بعد فوزه. (ولو ان هذا التصرف بحد ذاته يمثل استمرارا للسياسة البريطانية القديمة الجديدة فرق تسد). ولكن ورغم هيمنة حزب العمال المطلقة على البرلمان البريطاني فان الحزب سوف لن يكون بمنأى عن الانتقادات الشديدة إذا ما قرر رئيسه انتهاج سياسات لا تنسجم مع التطورات التي حصلت بعد الطوفان ومشاعر طلاب الجامعات والنقابات، وذلك بسبب ان شخصيات بريطانية ذات مكانة مهمة ومحترمة ومؤيدة للحق الفلسطيني قد نجحت في الوصول للبرلمان، وعلى راسها جيمي كوربين، رئيس حزب العمال السابق، والذي طرد قبل سنوات من الحزب بسبب مواقفه المؤيدة للحقوق الفلسطينية واتهامه من قبل اللوبي الصهيوني بمعاداة السامية. وحتى نجاح الحزب الليبرالي الديمقراطي في مضاعفة مقاعده في البرلمان حوالي ست مرات (72 مقعدا مقابل 11 في الانتخابات السابقة) لم يكن بعيدا عن تأثير ما يجري في غزة، حيث اكد رئيس هذا الحزب في اكثر من مناسبة دعمه لإقامة دولة فلسطينية ورفض المجازر التي ترتكب بحق المدنيين وطالب بوقف فوري للحرب، وحرص على زيارة كل الجوامع والمراكز الإسلامية قبل الانتخابات لإظهار دعمه لوقف الحرب والمجازر في غزة. هناك من سيقول ان هذه المواقف تظل قليلة التأثير طالما ان الولايات المتحدة ظلت مستمرة في دعم الاحتلال وتزويده بكل احتياجاته، وظل الساسة البريطانيون يتصرفون كإمعات لها، (حتى نهاية حقبة مارغريت تاتشر كان الساسة البريطانيون هم من يحركوا رؤوساء اميركا)، وطالما ظل الاندفاع الأمريكي في دعم اسرائيل بدون وجود من يوقفها عن ذلك. وهذ الامر صحيح جدا، ويمكن اضافة حقيقة اخرى وهي ان المتنافسين الاثنين على منصب رئيس الجمهورية في اميركا اختلفا في المناظرة الاخيرة في كل شيء ولكنهما اتفقا على امر واحد وهو كمية الدعم المقدم لدولة الاحتلال، وانتقل الأمر في هذه المسألة إلى التباهي في مسالة من سيقدم اكثر. ومع ذلك فان الصمود الأسطوري في غزة اجبر الرئيس بايدن على الضغط وبشدة على نتنياهو كي يعود للمفاوضات، ولبى الاخير هذا الامر صاغرا وارسل رئيس الموساد إلى قطر للاجتماع مع رئيس السي آي أي ووزير الخارجية القطري.
ولكن هذه الخطوة يجب ان لا تُفهم بانها قبول تام من قبل الحكومة الإسرائيلية، ففي محاولة جديدة لإفشال التوصل لاتفاق أثار نتنياهو قضية جديدة تعرف في فن المفاوضات بانها (مطالب تعجيزية او مطاطية غير ملموسة، او مستحيلة التطبيق) ويمكن ان يتم اللجوء اليها في اية لحظة لإفشال المفاوضات او اي اتفاق ينتج عنها. فبعد ان اكد ان الحديث هو عن هدنة مؤقتة وليس اتفاق دائم، وهو ما ترفضه حماس، أضاف جملة جديدة قال فيها ان من شروط الهدنة هو عدم السماح بتدفق اسلحة جديدة من سيناء إلى غزة، وان حصول ذلك سيعني خرقا للهدنة واستئناف القتال. وهذا الإمر المطاطي او الطلب التعجيزي دليل واضح على نيته المبيتة في افشال اي اتفاق وحرصه على استمرار الحرب. واذا كان هو لحد اللحظة لم يستطع تأكيد تدفق الأسلحة من سيناء او من تقديم ادلة على ذلك، وان مصر ترفض اية اتهامات لها بالتهاون في هذا الشأن فكيف سيتأكد نتنياهو بان هذا الامر قد تحقق؟ بالتأكيد هو يريد من وراء اضافة هذا الشرط الجديد ان يستخدمه كحجة بعد ان يتسلم الاسرى ويعيدهم إلى أهليهم كي يستأنف الحرب، والاهم حتى يضمن بقاءه في الحكم، على امل ان يصل ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، والذي يأمل منه ان يكون اكثر اندفاعا في دعم الاحتلال وفي تهديد وترويع الاطراف المؤيدة للحقوق الفلسطينية.
ولكن ومهما فعل هو ومن يدعمه فان كل هذه الألاعيب لن تنجح في اعادة الامور إلى ما كانت عليه قبل الطوفان. وإنه مهما ادعى فانه فشل في تحقيق اي هدف من أهدافه التي أعلنها في بداية حرب الابادة التي يشنها على غزة، وانه هو والولايات المتحدة اضطرّا للتفاوض مع حركة حماس، التي اتهموها بالارهاب ورفضوا اي حوار معها، وان العالم اصبح اكثر قناعة بضرورة الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني التي سلبت منذ اكثر من 75 عاما. ويكفي لاي انسان ان يتابع الاعترافات بالهزيمة التي تصدر من قيادات سياسية وعسكرية إسرائيلية في كل يوم وفي كل ساعة. وآخرها كان حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أولمرت على القناة 12 الإسرائيلية 2024/7/7 وسبق ذلك مقالة نشرها في 2024/6/25 في جريدة هآرتس الاسرائيلية والتي اتهم فيها نتنياهو بالفشل وبالخيانة وبانه يقود دولة الاحتلال إلى مصير اسود. وهذا ليس رأيه لوحدة وانما راي كل احزاب المعارضة. ويكفي ان يؤكد قادة عسكريون كبار ان جيش الاحتلال قد هُزِم منذ اليوم الاول لبدء عملية طوفان الأقصى، والمتفائل منهم يطالب بهدنة سريعة كي يتم اعادة تأهيل جيش الاحتلال.
نعم للمرة الألف ما قبل طوفان الأقصى هو ليس كما بعده ولو التفّ كل حكام الغرب حول دولة الاحتلال ومهما رموا لها من أطواق او حبال نجاة.