حسن نافعة
جدل صاخب يعلو في هذه
الأيام ويدور بشأن مسألتين: الأولى تتعلق بحسابات المكسب والخسارة ومعايير النصر
والهزيمة، وخصوصاً بالنسبة إلى الأطراف المنخرطة في الجولة الحالية من الصراع.
والثانية تتعلق
بالتأثيرات المحتملة لمآلات هذه الجولة في الأوضاع الاستراتيجية والجيوسياسية
للفاعلين الرئيسين في المنطقة. صحيح أن هذه الجولة من الصراع لا تزال مفتوحة، ولم
تُغلَق نهائياً بعدُ، غير أن ما طرأ مؤخّراً من تطورات، في الساحتين الإقليمية
والدولية، وخصوصاً عقب سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وتولي دونالد ترامب مقاليد
السلطة، لفترة ولاية ثانية، في الولايات المتحدة الأميركية، يوحي بأن منطقة الشرق
الأوسط دخلت مرحلة "ما بعد الطوفان"، وبدأت تستعد لـ "اليوم
التالي". لذا، يُعتقد، على نطاق واسع، أن الملامح الرئيسة لهذه التحولات
الاستراتيجية والجيوسياسية بدأت تتشكل بالفعل، وأصبحت بالتالي قابلة للرصد
والتحليل.
لا توجد قراءة واحدة لهذه
التحولات. ومع ذلك، يمكن اختزال القراءات المتباينة وإعادة دمجها في قراءتين تقفان
على طرفي نقيض. الأولى تفترض أن معيار النصر والهزيمة يُقاس بحجم الخسائر التي
تكبّدتها الأطراف، التي انخرطت في هذه الجولة من صراع الشرق الأوسط. ولأن
"إسرائيل" تمكّنت من توجيه ضربات قاسية إلى جميع خصومها، فلقد توصلت هذه
القراءة إلى نتيجة مفادها أن "إسرائيل" هي الطرف المنتصر في هذه الجولة.
وبالتالي، يُتوقع أن تصبح
في وضع يتيح لها إعادة تشكيل المنطقة على هواها، والتحكم فيها. أما القراءة
الثانية فتفترض أن معيار النصر والهزيمة يجب أن يقاس بالقدرة على تحقيق الأهداف، المعلنة
منها والمضمرة. ولأن "إسرائيل" عجزت عن تحقيق أيّ من الأهداف، التي
حدّدتها لنفسها، فلقد توصلت هذه القراءة إلى نتيجة مفادها أن "إسرائيل"
عجزت عن تحقيق النصر في هذه الجولة، التي اضطرت فيها إلى خوض أطول مواجهة عسكرية
في تاريخها وأعلاها تكلفة، ثم يُتوقع أن تواجه خيارات صعبة في المرحلة المقبلة،
تفرض عليها أن تختار بين السيئ والأسوأ.
تشير القراءة الأولى إلى
أن "إسرائيل" تمكّنت من تكبيد جميع خصومها في المنطقة خسائر فادحة. ففي
الساحة الفلسطينية، تمكنت من تدمير قطاع غزة بالكامل، وحولته إلى مكان غير قابل
للحياة، وقتلت وجرحت ودفنت تحت الأنقاض ما يقرب من مئتي ألف مواطن، يمثلون ما يقرب
من 10% من إجمالي سكانه. وفي الساحة اللبنانية، تمكنت من تحييد عدة آلاف من مقاتلي
حزب الله، سواء عبر عمليات تفجير عن بعد لأجهزة البيجر وأجهزة الاتصالات
اللاسلكية، أو عبر عمليات اغتيال مباشِر للكوادر والقيادات الرئيسة، على رأسهم
السيد حسن نصر الله نفسه، الأمين العام للحزب، كما تمكنت من تدمير معظم قرى الجنوب
اللبناني ومدنه، ومعظم مباني الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت.
وفي الساحة السورية،
ساهمت بفعّالية في تهيئة الظروف الدولية والإقليمية، والتي أفضت إلى سقوط النظام
الحاكم وهروب رئيسه بشار الأسد، الأمر الذي مكّنها لاحقاً من احتلال أراضٍ سورية
جديدة، تصل إلى ما يقرب من 500 كم مربع، ومن تدمير كل مقدّرات الجيش السوري، من
أسلحة وذخائر وقدرات تصنيعية وبحثية وخلافها.
فإذا أضفنا إلى ما تقدّم
أن "إسرائيل" تمكنت أيضاً من توجيه ضربات موجعة إلى إيران، سواء عبر
اشتباكات عسكرية مباشرة معها، أو عبر عمليات استخبارية ضد القوات الحليفة لها في
المنطقة، لَتبيّن لنا بوضوح أنها حققت مكاسب استراتيجية ضخمة، أهمها تفكيك
"محور المقاومة"، الذي لطالما عدّته إسرائيل بمنزلة تهديد وجودي لها،
وإخراج إيران نهائياً من سوريا، وبالتالي قطع طريق الإمدادات العسكرية الإيرانية
لحزب الله.
وتلك كلها إنجازات توحي
بأن "إسرائيل" باتت في وضع يسمح لها التحكم في عدد من المعطيات
الاستراتيجية والجيوسياسية المتعلقة بالمنطقة ككل، الأمر الذي يسمح لها بإعادة
تشكيل موازين القوى فيها من جديد على نحو يتلاءم مع أهوائها ومصالحها.
غير أن هناك من يعترض على
هذه القراءة، التي يرى أنها منحازة، لأنها تغفل عما تكبّدته "إسرائيل"
في هذه الجولة من خسائر جسيمة، على الصعيدين المادي والمعنوي، ولأنها أيضاً لا
تفسر لماذا عجزت "إسرائيل" عن حسم جولة قتال طالت أكثر من خمسة عشر شهراً،
للمرة الأولى في تاريخها.