أخر الاخبار

فاطمة صديقيان ومحمد شيرينكار يُعلنان عصراً جديداً من الحرب السيبرانية بين واشنطن وطهران

 


 

 

بين مطرقة الحرب التقليدية الصلبة وسندان الظلال الرقمية؛ يبرز الصراع العسكري- السيبراني بين أميركا وإيران من نافذة الهاكرز، بدءاً من "ستوكسنت" إلى الشهيد "شوشتري"؛ ففي إعلان غير مسبوق، عرضت الخارجية الأميركية مكافأة قيمتها 10 ملايين دولار لمن يُدلي بمعلومات تحدد هوية أو مكان وجود فاطمة صديقيان كاشي ومحمد باقر شيرينكار المُنتميّين إلى مجموعة الشهيد شوشتري- الذراع السيبرانية لــــحـــرس الـــثـــورة الإيـــرانــي، وهي سابقة تعكس إدراكاً أميركياً متزايداً بأن المواجهة مع طهران لم تعد محصورة في ساحات القتال التقليدية أو في جولات العقوبات، بل امتدت إلى الفضاء السيبراني، وبخاصة بعد أن أصبحت البنى التحتية الحيوية، أنظمة الطاقة، الاتصالات، المال، النقل، وحتى الإعلام، كلها أهدافاً محتملة في حرب غير مرئية لكنها مؤثرة؛ ولأجل ذلك تزعم الولايات المتحدة أن الهاكرز الإيرانيين يستطيعون أن يُنفذوا هجمات سيبرانية تضرّ بالبنية التحتية الحيوية لها ولشركائها، في إشارة الى ربيبتها "إسرائيل".

ومن هذه النقطة الهامة، نشرع في فهم أهمية هذا الحدث من خلال وضعه في سياق تطور الحروب عبر العقود الماضية، وكيف غيّرت التكنولوجيا مفهوم المواجهة وكيف أن إيران نجحت في إعادة رسم قواعد الاشتباك، ابتداءً من الحرب الصلبة إلى الحرب الناعمة ثم إلى الحرب الرقمية والسيبرانية الذكية. إذ إن التاريخ التكنولوجي للحروب يبيّن أن هذا الانتقال حصل قبل نحو 15 عاماً في "عملية الألعاب الأولمبية" وهو الاسم الرمزي لعملية سرية باستخدام فيروس كمبيوتر (Stuxnet) بغية تخريب منشآت نووية في إيران، والتي مثلت قفزة أولى في الحرب الرقمية لكنها كانت مُنفّذة من الخارج ضد إيران.

بعد هذا الهجوم، طوّرت الجمهورية الإسلامية قدراتها السيبرانية من خلال بناء وحدة هجومية متخصصة داخل بنية استخبارية رسمية تحت مسمى "شهيد شوشتري"، وهي بالتأكيد ليست مجموعة هاكرز هاوية، بل وحدة رسمية تابعة لــــحرس الثــورة الذي منحها موارد، غطاءً مؤسساتياً، تنسيقاً استخبارياً، وتوجيهاً حكومياً ساعد في رفع الهجمات الإلكترونية من مجرد خروقات تقنية عشوائية إلى أدوات حرب استراتيجية ذات بعد سياسي وأمني، فضلاً عن استهداف البنى التحتية الحيوية والشبكات الحكومية والاقتصادية، الأمر الذي يُبيّن القدرة على اختراق أنظمة استخبارية وأمنية لدول معادية، ودليل ذلك: ما نُشر مؤخراً في تقرير عن اختراق سيبراني إيراني كشف بيانات آلاف الإسرائيليين الذين خدموا في وحدات حساسة بمن فيهم عناصر استخبارات ودفاع، وتأكيده أن الاختراق تبعته رسائل مصمّمة وموجهة بدقة إلى تلك الشخصيات الحساسة نفسها، وهذا يعني أن إيران لم تكتفِ بالبنى التحتية؛ بل اخترقت أجهزة استخبارات ومعطيات حساسة أعطتها السرعة في التكيّف والتطور مقارنة بالماضي مع مرحلة "ستوكنت"، بل ذهب التقرير إلى أبعد من ذلك؛ إذ يشير بوضوح إلى أن الهجمات خلال العدوان الإسرائيلي على غـــزة بعد "طوفان الأقصى" وإيران في 12 يوماً شكّلت قفزة نوعية في القدرات السيبرانية الإيرانية.

لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا يأتي إعلان المكافأة في هذا التوقيت الحساس؟ وما دلالاته السياسية والإعلامية؟

إنّ المكافأة تمثل اعترافاً أميركياً بأن الهجمات السيبرانية الإيرانية ليست مجرد "مزاحمة تقنية" أو "قرصنة عشوائية" بل هي تهديد أشدّ وأخطر للبنية التحتية الحيوية والأمن القومي.

وأنّ إبراز أشخاص مثل فاطمة صديقيان ومحمد شيرينكار ووصفهم بـ"أعداء" يمثل تحوّلاً في الملف: من قضية تقنية محصورة بين مخابرات وأمن إلى "قضية رأي عام" و بروباغندا إعلامية تخدم أهدافاً سياسية تُبرر مزيداً من التهديد والعقوبة وربما "ضرب" طهران عسكرياً أو سيبرانياً، أو ربما يأتي هذا الملف في سياق الضغط السياسي سواء الداخلي الأميركي أو على حلفاء واشنطن وعلى رأسهم "إسرائيل"، وتحديداً نتنياهو الذي لا تعجبه تسويات ترامب في المنطقة مقابل الرشاوى والاستثمارات.

إنّ مستخلص هذا الإعلان الأميركي يُعطينا كدول وحكومات عربية دروساً تستدعي إعادة النظر في مفهوم مستقبل الحروب الذكية، وترتيب أولويات السياسات الخارجية، وبخاصة أن موازين القوى تغيّرت بشكل كبير؛ فالمواجهة لم تعد تقتصر على شعاع حديدي وطائرة B2 وبارجة وصاروخ باليستي أو قنبلة نووية على أهميتها مجتمعةً، بل على بيانات وخوارزميات وبرمجيات وذكاء مشترك "مفاتيحه" في الانتصار أو التعطيل بيد مهندسين ومخترقين.

ولعلّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومن خلال بناء مجموعة "هجوم سيبراني" ضمن هيكل استخباري رسمي، رفعت قيمة ما كانت تعدّها "أدوات هجومية بديلة" وبخاصة أنّ اختراق أجهزة الاستخبارات وبيانات آلاف العسكريين الإسرائيليين فضلاً عن تعطيل أنظمة بنى تحتية؛ كل ذلك يعادل في كثير من السيناريوهات هجوماً تقليدياً في عصر أعاد تعريف القوّة: بأنها لا تأتي فقط من القدرة على التدمير؛ بل من القدرة على (النفاذ، التسلل، حصاد البيانات، مزارع التجسس الرقمية والذكية، التحكّم بالمعلومة وصناعة السردية)، التي بدورها أعادت تعريف "حدود الحرب": وهي حرب هجينة متعددة الأبعاد: الجوّية، البرية، البحرية، الاستخبارية، والسيبرانية التي أعلنت عن بداية جديدة لصراع الخطر الرقمي- الذكي.

 

                                                                  محمد الخزاعي

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-