قبل سنوات طویلة، وبعد
المصادقة على القرار الأممي المرقّم 181 المؤرّخ في الـ 29 من تشرين الثاني/نوفمبر
1947 من قبل الجمعية العامّة للأمم المتحدة خلافاً لكلّ القوانين والمقرّرات
الدولية، تمّ الاعتراف رسمياً بالكيان الصهيوني الغاصب؛ وبعد أن تمّ تقسيم فلسطين
أجبر الآلاف من الفلسطينيين الساكنين في الأراضي المغتصبة التي منحت لـ
"إسرائيل" على النزوح والتشرّد في مختلف البلدان.
بعد ذلك اعتدى الكيان
الصهيوني مجدّداً على الأراضي الفلسطينية في العام 1948 واحتلّ ما يعادل 78% مما
تبقّى من الأرض الفلسطينية، وفي العام 1967 تمّ احتلال غزة والضفة الغربية واستمرّ
احتلال غزة حتى 25 آب/أغسطس 2005 حيث أجبر "الجيش" الصهيوني على
الانسحاب منها بعد 38 عاماً من احتلالها مع المحافظة على سيطرته على الأجواء
والمياه الساحلية لقطاع غزة.
ولكن بعد انطلاق عملیات
طوفان الأقصى هاجم "الجيش" الصهيوني القطاع مرة أخرى وفرض سيطرته عليه
مما أدّى إلى نزوح سكان غزة عن بيوتهم وأماكن سكنهم وفرض السيطرة الصهيونية على
أجواء ومياه غزة بشكل كامل، رافضاً إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع المحتلّ
بما يخالف المادة الثالثة والعشرين من معاهدة جنيف الرابعة، وبالتالي عرقلة وصول
أيّ نوع من المساعدات الإنسانية، بل الحؤول دون وصول قافلة الصمود الإنسانية إلى
سواحل غزة رغم حملها لشخصيات عالمية من أكثر من 44 دولة، وبالتالي أسرهم والتضييق
عليهم واستجوابهم وتعذيبهم قبل إعادتهم إلى بلدانهم.
قام الكيان الصهيوني
الغاصب بشنّ هجمات دموية وحشية على المناطق الآهلة بالسكان في غزة وكلّ فلسطين،
ومنع وصول الوقود والطاقة الكهربائية للسكان والمراكز الصحية والخدمية الأخرى التي
تحتاج إلى الوقود والكهرباء لمزاولة عملها وتقديم خدماتها مما أدى إلى ولادة العشرات
بل المئات من الأطفال المعوّقين الذين حرموا من أبسط الإمكانات والخدمات اللازمة،
وقد شاهد العالم الصور والأفلام المؤسفة عن هذه الحالات منذ السابع من تشرين
الأول/نوفمبر 2023 وحتى الآن.
وهکذا تعرّض الآلاف من
الأطفال للموت التدريجي رغم أنّ عدداً قليلاً من المشافي تواصل تقديم خدماتها
بأقلّ الإمكانات المتوفّرة وهي تواجه الانقطاع المستمر للطاقة الكهربائية والوقود
اللازم.
في الحقيقة إنّ قطاع
غزة يواجه أعلى درجات العقاب الجماعي لسکانه خلافاً لكلّ القوانين والمقرّرات
الدولية التي تعتبر مثل هذه الأعمال جرائم حرب ضدّ الإنسانية، حيث إنّ هذه الحالة
المؤسفة تشتدّ يوماً بعد آخر رغم المطالبات الدولية العديدة لرفع الحصار عن غزة.
طبقاً للمادتين الـ 51
والـ 57 من البروتوكول الإلحاقي الأول لمعاهدة جنيف فإنّ السكان المدنيين وغير
العسكريين ينبغي أن يصانوا من أيّ نوع من الهجوم المسلّح ويمنع عنهم أيّ نوع من
التهديد العنيف الهادف لإشاعة أجواء العنف بينهم... إلّا أنّ الحملات الصهيونية
الوحشية أدّت إلى نتائج مفجعة للأطفال والنساء العزّل من الفلسطينيين، وقد تحوّلت
هذه الأعمال الإجرامية التي نفّذت خلال الثلاثين عاماً الأخيرة إلى إبادة جماعية
بحقّ الفلسطينيين من سكان غزة؛ حيث شهد العالم صوراً قليلة عنها تعجز الأفلام
الحربية عن عرضها أمام أنظار العالم وتخجل البشرية من رؤيتها والإحاطة بكلّ
تفاصيلها الإجرامية.
طبقاً للمادة الـ 51
والبند الثالث من المادة الـ 57 من البروتوكول الإلحاقي الأول لمعاهدة جنيف فقد
تمّ منع أيّ هجوم يشنّه أحد أطراف الصراع ضدّ الأماكن المدنية المأهولة بالسكان
واعتباره عملاً انتقامياً غير مبرّر ضدّ غير العسكريين؛ حيث إنّ الدفاع عن
المدنيين وغير العسكريين يعتبر عملاً مهماً جداً بحيث إنّ المادة الثامنة من
اللائحة التأسيسية لديوان العدل الدولي تعتبر مثل هذه الأعمال جرائم حرب بل وأكثر
من ذلك...
ولكن بالرغم من كلّ
هذه القوانين والمقرّرات الدولية فإنّ الأعمال الإجرامية التي ارتكبت منذ السابع
من تشرين الأول/أكتوبر 2023 وكما أقرّ بذلك المفوّض العام للأونروا كانت أكثرها
ضدّ المدنيين حيث شكّل عدد الشهداء من النساء والأطفال 70% من مجموع الشهداء الذين
ارتقوا في غزة خلال السنتين الأخيرتين إضافة إلى أعداد أخرى ممن استشهدوا في إثر
الجوع ونقص الغذاء.
الكيان الصهيوني
المجرم يستخدم سلاح تجويع المدنيين أمام أعين داعمیه العمياء من الدول والحكومات
كسلاح حربي، بينما تمّ منع اللجوء لمثل هذا الأسلوب اللاانساني بشكل قاطع في
المادة الـ 54 من البروتوكول الإلحاقي لمعاهدة جنيف.
كذلك فإنّ منع استخدام
العنف والأعمال اللإانسانية بالأخصّ مع النساء يعتبر أحد الأمور المهمّة التي تمّ
تأكيدها في المادة الـ 76 من البروتوكول الإلحاقي الأول لمعاهدة جنیف، حيث لا بدّ
من احترام النساء بشكل خاصّ في الحروب والنزاعات، وبالأخصّ فيما يرتبط بانتهاك الأعراض
وإجبارهن على ممارسة البغاء والأشكال السلوكية الأخرى غير المحترمة. ولا بدّ من
الدفاع عنهنّ وحمايتهنّ أمام مثل هذه الأساليب، الّا أنّ التقارير العديدة التي
انتشرت حول انتهاك حرمات النساء وأعراضهن بالأخصّ النساء اللواتي احتجزن في مشفى
الشفاء بغزة فضحت الصهاينة.
واستناداً للمادة
ذاتها فلا بدّ من مراعاة أوضاع النساء الحوامل أو الأمهات المرضعات والمعتقلات
خلال الحروب والنزاعات واعتبرن ضمن الأولويات المهمة بهذا الشأن.
كذلك وطبقاً للمادة
السادسة عشرة من معاهدة جنيف الرابعة فإنّ النساء الحوامل يجب أن يتمتعن بالحماية
والدعم الخاصّ، بينما طبقاً لتقارير المنظمات الدولية فإنّ نحو 100 ألف من النساء
الفلسطينيات الحوامل يتعرّضن للأخطار الجادّة بسبب عدم تقديم الرعاية الصحية وعدم توفّر
الإمكانات العلاجية والصحية لهن إلى جانب إسقاط أكثر من ألف امرأة حامل لجنينها
بسبب ذلك.
من المظاهر الأخرى
لانتهاك حقوق الإنسان في غزة عدم التفريق بين الممتلكات غير العسكرية والأهداف العسكرية
وشنّ الهجمات المتعددة على الأهداف المدنية وغير العسكرية؛ مثل المراكز الصحية
والعلاجية والمستشفيات فضلاً عن مهاجمة المراكز الدينية والمدارس والكنائس والمساجد
والمعابد والأماكن التاريخية والتراثية، وذلك خلافاً للمادة الثامنة للبروتوكول
الإلحاقي الأول والقاعدة التاسعة والعشرين من القواعد العرفية للحقوق الإنسانية
الدولية.
هذا في الوقت الذي
يمنع فيه أيّ نوع من الهجمات الهوجاء ضدّ الأماكن غير العسكرية أو احتلالها أو
تخريبها، وذلك طبقاً للمادة الـ 147 من معاهدة جنيف الرابعة والمادة الـ 52 من
البروتوكول الإلحاقي الأول.
كما أنّ القواعد
السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة من القواعد الإنسانية العرفية الدولية أكّدت
ذلك أيضاً، ولا يوجد أيّ نوع من الهروب من المسؤولية من قبل مرتكبيها..
حيث إنّ التقارير التي
نشرتها المراكز الدولية الرسمية أشارت إلى تدمير جميع البنى التحتية الحيوية في
غزة التي تشمل المراكز الصحية والعلاجية والتعليمية والخدمية والدينية فضلاً عن
تخريب كلّ خطوط إيصال التيار الكهربائي والماء وتدمير الأراضي الزراعية، بحيث إنّ
سكان غزة لا يمكنهم الحصول على أبسط الخدمات الحياتية رغم توقّف إطلاق النار.
إنّ إجبار السكان على
النزوح من أماكن سكنهم في غزة يمثّل نوعاً آخر من الجرائم المرتکبة في القطاع خلال
السنتين المنصرمتين، بينما طبقاً للقاعدة 129 من قواعد حقوق الإنسان العرفية فإنّ
الجهة المحتلة لا يحقّ لها أن تجبر السكان على النزوح من أماكن سكنهم أو إخراجهم قسراً
منها.
ولكن خلال السنوات
المنصرمة بالأخصّ بعد عمليات طوفان الأقصى فإنّ الكثير من أفراد الأسر الفلسطينية
أجبروا على النزوح من أماكن سكنهم الأصلي وتمّ إخراجهم منها وتشرّد بعضهم في أماكن
أو دول أخرى، وفقد البعض منهم وثائقهم الثبوتية الشخصية، والبعض الآخر اضطرّ للبقاء
في الأماكن المحتلة وتحمّل أصعب الظروف الحياتية بينما سلبوا حقّ تقرير مصيرهم
ومصير أسرهم، وذلك خلافاً للمادة الـ 49 من معاهدة جنيف الرابعة التي منعت ارتكاب
مثل هذه الأعمال اللاإنسانية مثل النزوح القسري داخل الأراضي المحتلة أو خارجها.
هذا وقد تمّ إحصاء
أكثر من 90 حالة لانتهاك قواعد حقوق الإنسان في غزة خلال السنتين الأخيرتين ومنها
التعامل اللإانساني مع الأسرى، بينما تؤكّد المادتان الثالثة عشرة والرابعة عشرة
من معاهدة جنيف الثالثة لزوم التعامل الإنساني مع أسرى الحروب في كلّ زمان ومكان
وهم يتمتعون بالكرامة الإنسانية إلى جانب احترام حقوق النساء وخصوصياتهنّ
الطبيعية، إلا أنّ التقارير الدولية تشير إلى التعامل اللإانساني مع الأسرى
الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية في أصعب الظروف، حيث إنّ الصور التي انتشرت
مؤخّراً حول تعذيب واستشهاد أحد الأسرى الفلسطينيين تحت التعذيب تدمي قلب كلّ
إنسان حرّ في العالم.
إنّ كلّ هذه الجرائم
ترتكب في ظلّ أجواء الظلم واللاعدالة والهروب من المحاكمة الدولية وعدم التعامل مع
المجرمين الصهاينة كمجرمي حرب، مما أدّى إلى مواصلة العدو الصهيوني لإجرامه بحقّ
البشرية وانتهاك الحقوق الإنسانية الدولية.
إنّ المبدأ الأول
لنورنبرغ يؤكّد أنّ: "كلّ من يرتكب جرماً طبقاً للحقوق الدولية فإنه يتحمّل
مسؤولية ذلك ويستحقّ العقوبات المنصوص عليها."
إلّا أنّ المجرمين
الصهاينة مستثنون للأسف من هذه الحقوق الدولية المؤكّدة، ورغم البدء بمتابعة هذه
الجرائم الحربية من قبل الادّعاء العامّ لديوان العدل الدولي إلا أننا لا نرى أيّ
متابعة جادّة أو اتخاذ أيّ إجراء عملي لازم.
لذلك لا بدّ من تعبئة
كلّ الطاقات والإمكانات واللجوء للأساليب الحقوقية والقانونية كافة للتحقيق مع
المجرمين ومساعديهم ومتابعتهم بسبب ارتكابهم هذه الجرائم، ومنها تشكيل لجان مستقلة
للتحقيق فضلاً عن تشكيل محاكم خاصة من قبل مجلس الأمن الدولي أو المحكمة الإسلامية
الخاصة بفلسطين.
أجل إنّ متابعة جرائم
الإبادة الجماعية في فلسطين وغزة والتصدّي لها تعتبر مهمّة جميع الدول والحكومات
وينبغي على المنظّمات الدولية أن تقوم بواجباتها المؤثّرة بهذا الشأن للحؤول دون استمرار
هذه الجرائم الهادفة إلى تنفيذ الإبادة الجماعية للفلسطينيين، وبالتالي صيانتهم من
تلك الجرائم وإعادتهم إلى أرضهم الأصلية واحترام حقّهم في تقرير مصيرهم.
إنّ جميع هذه الجرائم
وانتهاكات حقوق الإنسان المنظّمة من قبل الصهاينة وارتكابهم للمذابح الجماعية وقتل
الصحافيين والإعلاميين وفرض الرقابة الصارمة على إرسال الأخبار والحقائق المرتبطة
بما يجري من حوادث في غزة، ومنع مواقع التواصل الاجتماعي من القيام بدورها الإنساني
بهذا الخصوص وغيرها يمكن النظر إليها في إطار انتهاك الحقّ والحقيقة.
في الحقيقة، إنّ
الجهود المبذولة من قبل المواقع والمراكز الصهيونية بهدف الحؤول دون إيصال الحقائق
المرتبطة بأبناء الشعب الفلسطيني المظلوم وعدم إيصال أصواتهم إلى العالم ومنع نشر
الأخبار المرتبطة بهم تعتبر انتهاكاً بحقّ الشعوب الحرّة في العالم وسكان غزة بل
المجتمع الإنساني..
كما أنّ الحكومات
والدول العالمية مسؤولة أيضاً عن هذا الوضع المؤسف حيث لم تقم بواجبها اللازم
والمسؤول حيال انتهاك حقوق الفلسطينيين، وهي لم تبادر إلى إغلاق المواقع التي وقفت
إلى جانب المجرمين الصهاينة في انتهاكهم لحقوق الإنسان الفلسطيني، بل إنها بادرت
إلى طمس الحقائق المرتبطة بغزة؛ بالأخص بعد تشديد الحرب والجرائم فيها وإظهار
معلومات وصور غير حقيقية وكاذبة عمّا يجري هناك من جرائم أمام الرأي العامّ
العالمي والمبادرة لجرّها نحو الانحراف والتضليل الإعلامي.
لذلك، فإنّ الوضع
السائد حالياً في العالم يشير إلى جدّية الحرب الحقوقية والقانونية السائدة وضرورة
المتابعة الجادّة لها:
- إنّ واجب الدول الداعمة لمحور المقاومة
والمدافعة عن فلسطين والحقوقيين ذوي الضمائر الحيّة والواعية هو القيام بتوعية
حقوقية وقانونية واسعة على مستوى العالم والمحافل الدولية بهدف تعرية الوجه
الحقيقي للمحتلين الصهاينة وسدّ الثغرات بهذا الشأن.
- ينبغي الاعتراف الرسمي بحقّ المقاومة
المشروع في التصدّي للاحتلال وحقّ تقرير المصير في إطار القوانين الدولية.
-الكيان المحتلّ لا يحقّ له الدفاع أمام
المقاومة المشروعة، حيث إنّ "إسرائيل" تزعم أنها تمارس حقّها المشروع في
الدفاع وهو مخالف للحقيقة والواقع حيث لا معنى للدفاع المشروع من قبل المحتلّ أمام
المقاومة الناتجة عن هذا الاحتلال الغاشم..
ختاماً نؤكّد ضرورة
السعي العالمي لإبراز دور المنظّمات والمراكز الدولية وتجهيزها للقيام بدورها
المسؤول وبالتالي الخروج من هذا الطريق السياسي المغلق.
محمد مهدي إيماني بور

