في كلّ مرة تعيد فيها قراءة استراتيجية أمن
الولايات المتحدة الأميركية التي صدرت في تشرين الثاني/نوفمبر 2025، تخرج باستنتاج
جديد حول توجّهات السياسة الأميركية خلال السنوات الثلاث المتبقّية لإدارة الرئيس
ترامب.
انعكست هذه الاستنتاجات المتعدّدة على قراءات
المحلّلين الذين كتبوا عن هذه الاستراتيجية. فالبعض رآها انسحاباً من الدور
العالمي الأميركي والتركيز على محورين رئيسين هما نصف الكرة الغربي، ومحور الهندي
– الهادي اللذان احتلّا 29 صفحة من أصل 33 صفحة من الترجمة العربية، وما نصّا عليه
صراحة بقولها: " بعد نهاية الحرب الباردة أقنع قادة السياسة الخارجية
الأميركية أنفسهم بأنّ السيطرة الأميركية الدائمة على العالم بأكمله تصبّ في مصلحة
البلاد. لكنّ شؤون البلاد الأخرى لا تعنينا إلّا إذا كانت أنشطتها تهدّد مصالحنا
المباشرة".
محلّلون آخرون رأوا في الاستراتيجية تراجعاً
اقتصادياً أمام الصين، واعترافاً بتفوّقهما الاقتصادي إذ نصّت على: "لقد
تفوّقت الشركات الصينية المدعومة والموجّهة من الدولة في بناء البنى التحتية
المادية والرقمية... أما الولايات المتحدة وحلفاؤها، فلم يضعوا بعد – فضلاً عن
التنفيذ – خطة مشتركة لما يسمّى "الجنوب العالمي".
سأحاول هنا تقديم رؤية أخرى لهذه الاستراتيجية
ترى فيها تعبيراً عن الذعر الأميركي على المستويين الاقتصادي والعسكري، ومحاولتها
وضع خطة لكي تعود "أميركا قوية ومحترمة مرة أخرى" كما أوضح ترامب في
رسالته في مقدّمة الوثيقة. تحمل هذه العبارة في طيّاتها اعترافاً ضمنياً بأنّ
أميركا لم تعد قوية كما كانت، وأنّ تراجع قوتها أدّى إلى تراجع احترامها في
العالم، وتجرّؤ دول صغيرة سواء اقتصادياً أو عسكرياً. يعزّز النصّ هذا الاعتراف
ويؤكّد أنّ الولايات المتحدة ستتبع خلال المرحلة المقبلة سياسة تقوم على: الميل
لعدم التدخّل، وإعادة التموضع من خلال السلام.
تبرّر الاستراتيجية هذه التوجّهات الجديدة بأنّ
الشعب الأميركي لم يعد مستعدّاً لتحمّل أعباء عالمية إلى أجل غير مسمّى. وترى أنّ
العولمة كانت خطأ مدمّراً لأنها أدّت إلى تلاشي الطبقة الوسطى الأميركية التي
تشكّل القاعدة الصناعية التي تؤمّن الهيمنة الأميركية على العالم. كما أنّ العولمة
دفعت الولايات المتحدة للتورّط بأجندات
والتورّط بحروب تمثّل مصالح دول أخرى.
تطلق الاستراتيجية رسالة تطمئن العالم بأنّ
هدفها المستقبلي هو استمرار بقاء الولايات المتحدة وبقائها كجمهورية مستقلة ذات
سيادة تسيطر على حدودها. أما مصادر الخطر فهي:
1- سيطرة القوى المعادية على مصادر الطاقة.
2- سيطرة القوى المعادية على سلاسل
الإمداد من خلال التحكّم بالممرات التجارية العالمية مثل مضيق هرمز، والبحر الأحمر
ومضائق بحر الصين الجنوبي.
3- الهجرة وما تحمله من احتمالات التغيير
الديموغرافي والثقافي في الدول الرأسمالية. فزمن "الهجرة الجماعية"
و"الهجرة المنظّمة" قد انتهى بحسب الاستراتيجية.
بمعنى آخر ترسم الولايات المتحدة حدود تدخّلها
في العالم، وتنأى بنفسها (على الطريقة اللبنانية) عن بؤر الأزمات والتوتر العسكري
في الشرق الأوسط إذ إنّ "الأيام التي كان الشرق الأوسط فيها يهيمن على
السياسة الخارجية الأميركية... انتهت والحمد لله"، وفي أوروبا التي رأت
الاستراتيجية أنّ "حرب أوكرانيا أدّت إلى نتيجة معاكسة لما هو متوقّع"،
أما أفريقيا التي أفردت لها الوثيقة أقلّ من نصف صفحة رغم ما تعيشه من مجازر في
السودان، وانقلابات في أكثر من دولة، فترى الاستراتيجية أنّ المطلوب هو تغيّر
طبيعة العلاقة معها من علاقة مساعدات إلى علاقة قائمة على التجارة والاستثمار، من
دون المطالبة بإعطاء الأولوية للشركات الأميركية وطرد الشركات الأجنبية التي تقوم
ببناء البنية التحتية كما طالبت دول نصف الكرة الغربي.
في هذا السياق تنتقد الاستراتيجية الحالية ما
دأبت عليه الاستراتيجيات السابقة من توسيع لحدود عبارة "المصلحة الوطنية
الأميركية" إلى حدّ يجعل كلّ قضايا العالم، تقريباً، تقع ضمن حدود هذا
المصطلح. وتدعو إلى التركيز على المصالح الجوهرية للولايات المتحدة وإنهاء زمن
تحميلها أعباء العالم كلّه "كأنها أطلس يحمل العالم فوق كتفيه".
تصف الاستراتيجية الرئيس ترامب بأنه "رئيس
السلام" وهو اللقب الأحبّ إلى قلبه، وترى أنّ السلام يتحقّق من بناء الولايات
المتحدة لأقوى جيش في العالم قادر على الردع وعند الحاجة كسب الحروب بأقصى سرعة
وأقلّ خسائر، وبناء أقوى اقتصاد في العالم يكون أكثر مرونة وابتكاراً وتطوّراً
معتمداً على أقوى قاعدة صناعية، وقطاع طاقة في العالم. بواسطة هذه القوى مجتمعة
تتمكّن الولايات المتحدة من "فرض السلام بالقوة"، ثمّ "إعادة
التموضع من خلال السلام".
غاب عن الاستراتيجية ذكر الصين بشكل مباشر كخصم
تجاري أو عسكري، واكتفت بالإشارة إليها بطريقة غير مباشرة عند الحديث عن عدم دعم
الولايات المتحدة لأيّ تغيير أحادي الجانب في تايوان، ومطالبة الحلفاء مثل اليابان
وكوريا الجنوبية المساهمة العسكرية في الدفاع عن الجزر الأمامية في تايوان،
وأحياناً استعمال وصف "عدو مباشر" أو "قوى معادية" عند وصف
الصين، وأحياناً إيران التي تعتقد أنها أضعفت قوتها من خلال عملية "مطرقة
منتصف الليل" وهو الاسم الذي تطلقه على عدوانها على المنشآت النووية الإيرانية.
الرسالة كما يمكن قراءتها تقول إنّ الولايات
المتحدة مذعورة من تراجع قوة الثالوث الرأسمالي (الولايات المتحدة وأوروبا
واليابان) الاقتصادية إذ أصبحت مجتمعة تساهم بأقلّ من 50% من إجمالي الناتج
العالمي، وتقدّم قوى صاعدة مثل الصين التي تحتلّ الترتيب الثاني عالمياً، والهند
التي تحتلّ الترتيب الرابع. تطرح الاستراتيجية حلولاً اقتصادية تعتمد على تراجع
مساهمة الولايات المتحدة عن دعم العالم وتحويل الأموال التي تنفقها في هذا المجال
إلى تنمية الداخل الأميركي و"فرض رسوم جمركية تاريخية لإعادة الصناعات
الحيوية إلى الوطن". وتطلق تهديداً واضحاً بأنّ كلّ من يقف في وجه هذا
الاستراتيجية خاصة في المناطق الحيوية سيتعرّض لمواجهة أقوى جيش في العالم الذي
سيفرض السلام بالقوة، ويعيد تموضع العلاقات الأميركية مع الدول المارقة من خلال
هذا السلام.
عماد الحطبة

